كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وها هو ذا ضوءها يسقط على الكهف المعمور بأهله، إن الشعاع يميل عن فم الكهف في الصباح يمينا، وفى المساء شمالا، حتى لا يشعر مار بأن في الكهف أحدا!. ما هذه الآية الحانية على الشباب المؤمن؟ {وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله} ما أكثر آيات الله في الأولين والآخرين، وما أكثرها حولنا ونحن في غيبوبة لا نشعر بها.. وبعد ثلاثمائة سنة يستيقظون، فماذا يعنيهم بعدما صحوا جياعا عقب نوم طويل؟ يرسلون أحدهم ليشترى طعاما، ويقولون له: احذر أن يعرفك أحد من المشركين {إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا}. إنهم لايدرون شيئا مما عراهم، كل ما يغنيهم الثبات على الحق، ونبذ الضلالة، والفرار من الفتنة، ولذلك ختمت قصتهم بقوله تعالى: {قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا}. إن القصة كلها لدعم عقيدة التوحيد، ذلك وقد جاء أول السورة قوله تعالى: {أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا} فلا عجب إذا جاء بعد ختام القصة {واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا}.. والناس من هذا الكتاب فريقان: فريق آمن به وتبع رسوله، وفريق آخر زاغ عن الحق وتبع هواه، وهنا نجد الله سبحانه يوصى نبيه بأن يكون مع الفريق الأول برا ودودا {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه}. ومع الفريق الآخر نابذا مباعدا {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا} ولكلا الفريقين مصيره العدل عندما تقوم الساعة {إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها} أما أهل التقى والشرف فلهم جزاء آخر {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا} وبعد هذا البيان الشافى يقال لأهل الأرض أجمعين: {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} المؤمن إنسان يعرف ربه، ويحيا له، ويستعد للقائه، ويعلم أن الموت لايقطع خط الحياة، فإن هذا الخط لايقطعه شيء، إن الموت نقطة تحول- وحسب- من حياة إلى أخرى. أما الكافر فامرؤ يعرف نفسه ويحيا لها، ويقضى العمر في تحصيل حاجاته، وإدراك لباناته، ولاينتظر بعثا بعد الموت، فإن حياته الحاضرة هي عنده الأولى والآخرة.. وفى سورة الكهف حوار بين كافر على جانب من الثراء ومؤمن قليل المال {واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا} ولم تكن للآخر أمثال! هذه الحدائق الزاهرة.. فإذا الغنى المغرور يقول له مفاخرا مكاثرا: {أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا} لماذا تعير إنسانا مثلك بفقره؟ ساعده إن استطعت، واحفظ لسانك عنه..! من يدرى! قد يكون خيرا منك عند الله..؟. إن الله جمره من مطيع تطاول بطاعته، وقال! لرجل مقصر: والله لا يغفر الله لك.! فقال الله له يوم القيامة: أكنت على مافى يدى قادرا؟! فإنى قد غفرت له وأحبطت عملك...!!. أدب الإسلام أن تنظر إلى نعم الله عندك على أنها فضل الله عليك ومنته، ومن دعاء المسلم لربه: اللهم لامانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت. ومن المكثرين من يحسب أنه جمع ماله بما أوتى من ذكاء، ويقول كما قال قارون: {إنما أوتيته على علم عندي} فلنفرض أنك عبقرى، وأنك جمعت ثروتك بذكائك الخارق، فمن منحك هذا الذكاء؟ وميزك بتلك المقدرة؟. إنه الله الذي ينبغى أن ترد إليه ما عندك كله، وهذا ما شرحه المؤمن الفقير لصاحبه المغرور {ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترني أنا أقل منك مالا وولدا فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا}!! وكان ما توقعه المؤمن المنكسر، فإن جوائح السماء هبطت على الجنة المزدهرة فجعلتها قاعا صفصفا، وتركت صاحبها يصيح من الندم يقول: {يا ليتني لم أشرك بربي أحدا ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا}. من الذي أشرك به هذا المسكين؟ لقد أشرك بالله نفسه التي بين جنبيه. إنها الوثن الذي عبده، لقد جعل إلهه هواه.
الإنسان عادة حريص على مصلحته ويحسن الجرى وراء حاجته، لكن هذا السعى قد يتورم ويربو ويسد عليه الآفاق فلا يعرف إلا ما يريد، ومايبقى لله مكان في ضميره ولا في سلوكه! إنه هو الأول والآخر!!. والحضارة الحديثة صنعت أجيالا من هذا القبيل ارتبطت بهذا التراب، فلا تبصر وراءه شيئا... بل لقد استبعدت ذكر الآخرة من حسابها، وجعلت التفكير فيها أو الحديث عنها لونا من الخرافة لايخوض فيه العقلاء. أو يخطر لهم ببال.. في هؤلاء يقول الله تعالى: {واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا} على أن الحياة الدنيا- مع انقضائها وانتهائها- ليست شرا محضا، فقد يكون التمكين فيها من رحمة الله، كما قال الله بعدما منح يوسف- عليه السلام- أرفع المناصب: {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين}. إن هذا التمكين قد يكون دعما للحق وعونا للضعاف وسندا للمروءة، كما قال عروة بن الورد: أليس شديدا أن تلم ملمة- وليس علينا في الحقوق معول؟ كما إن دراسة الأرض والسماء ينبوع دفاق يزيد الإيمان ازدهارا، ويعزف الناس بربهم معرفة حسنة، والقرآن الكريم بنى صدق الإيمان على التفكر الذكى في ملكوت الله.. على أن الله لم يحرم اليسار والغنى على عباده الصالحين ليختص بهما العباد المجرمين. وهو لم يغضب على صاحب الجنة المغرور إن كانت له جنة أو جنان، إنما غضب عليه لأنه كان ذا فكرا سخيف ومنطق غبى!. ما معنى أن يقول: {ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا}. لماذا؟ مكافأة على الكفر والتطاول على الله؟ إن هذا الأحمق جدير أن يكون حطب النار في الآخرة، كما هو جدير بالحرمان في الدنيا.. وعلى ضوء هذا نفهم التعليق الإلهى على هذه القصة: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا}. إن المال والبنين كما يكونان زينة الحياة الدنيا يكونان عدة النصر في معركة التحرير والشرف، كما قال تعالى لبنى إسرائيل حين نصرهم على عدوهم: {ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا} وفى الحديث: «نعم المال الصالح للعبد الصالح». حين تنهزم دوافع الفداء والجهاد أمام حب الدنيا تكون الدنيا مصيبة!!. وعندما يغلب الشره والبخل عند وجود المال يكون المال نكبة. أما صاحب المال الذي يساند به الإيمان وينفقه في الجهاد فهو عابد رفيع الأجر. ونحن ينبغى أن نفهم المرويات في ذم الدنيا وألا نتجاوز بها حدودها. ومن ذلك هذا الحديث الرقيق الذي يعين على العفة والعزة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت الآخرة همه تجعل الله غناه في قلبه وجمع عليه شمله، وأتته الدنيا وهى راغمة. ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له، فلا يمسى إلا فقيرا، ولا يصبح إلا فقيرا. وما أقبل عبد على الله بقلبه إلا جعل الله قلوب العباد تنقاد إليه بالود والرحمة. وكان الله بكل خير إليه أسرع». إن هذا الحديث شفاء من جنون الشره، وعبادة الحياة، والتعلق بالحطام، ولايصد عن غنى يجيء مع التماسك والأدب. مما يثير الأسى حول مستقبل الإنسان أنه ينسى ربه، وتستغرقه مآرب الدنيا، فلا يكاد يعد شيئا طائلا للقائه، تكاد الآخرة تكون في حسابه وهما وهى حق لا ريب فيه!. وفقدان الذاكرة على هذا النحو لايثمر إلا الخسار، ولذلك اتجه السياق القرآنى إلى التذكير بيوم التلاق {ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا وعرضوا على ربك صفا}. ولما كان أغلب الناس يفعل ويذهل، وينسيه يومه الحاضر ما كان ويكون، فهو يدهش للإحصاء الدقيق الذي يواجهه {ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا}. ويوم الحساب يوم مفاجآت وتغابن، فإن المشركين يوقنون بأنهم كانوا على خطأ، والعصاة يشعرون بمدى تفريطهم!.
ويبدو أن العالم المعاصر سوف يبقى منخدعا بالإمهال الإلهى، فلا يحدث توبة حتى يحاط به {وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا}. وبعد القصتين السابقتين في سورة الكهف تجيء قصة ثالثة: قصة موسى نبى بنى إسرائيل مع نبى آخر من عباد الله الصالحين اسمه خضر كما ذكرت ذلك السنة الشريفة. والقصة في نظرى تشرح حكمة شائعة هي رب ضارة نافعة أو حكمة أخرى مشابهة لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع إننا في هذه الحياة نعمل ما نرى أنه الصواب، وأنه النفع المحقق!! ثم نفاجأ بالأقدار تفد بنتائج أخرى قد تكون محزنة لنا، أو مجلبة للسخط، والأولى أن يستسلم المرء للقدر، وينزل عند قوله تعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون}. هل يعنى ذلك أن نفقد الثقة في أعمالنا وأحكامنا؟ لا، أحكم خطتك واحشد الأسباب الصحيحة ودع ما بقى لله!!. هل يعنى ذلك أن نأذن بارتكاب شيء يخالف العقل والشرع بحجة أن العواقب غيب؟ كلا.. فمن خالف الشرع والعقل حوسب وأوخذ، ولا تسمع له حجة.. وقصة موسى مع الخضر مسلك خاص، تم بوحى أعلى، فكلا الرجلين يؤدى رسالة من ربه كلف بها. وقد انتهى زمان الوحى والرسالات فمن اقترف عملا منكورا وزعم أنه مكلف به من الله فهو كاذب، ووجبت عقوبته بمقدار ما اقترف وادعى!. وما حدث لموسى خاصة كان معاتبة من الله له، لأنه في غمرة تبليغ الدعوة سئل هل يوجد من هو أعلم منه؟ فنفى، وكان ينبغى أن يرد العلم كله لله... فشاء الله أن يؤدبه بهذه القصة الغريبة ليشعر بأنه فوق كل ذى علم عليم!. وبدأت القصة مشيدة بخلقين عظيمين يحتاج إليهما الرجال الأبطال، هما: العزم الواثق، والاحتمال الطويل، ذاك ما تتضح به الآية: {وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا} أى لن يهدأ لى نشاط حتى أصل إلى الخضر ولو طالت دونه أحقاب!!. وموسى نبى من أولى العزم، فليس بدعا أن تكون لديه هذه الشمائل، وقد شكا عمر قديما من عجز الصالح وخيانة القوى، والواقع أن الأعمال الكبار لا تتم إلا بقوى تقى، أما الطيبون الضعفاء فلا خير فيهم. والتقى موسى والخضر، وقال موسى له في تواضع جم: {هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا}؟ ورد الخضر مصارحا بما في اتباعه من مشقة ربما لا يتحملها موسى: {قال إنك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا}؟. لكن موسى تعهد بالصبر والانقياد، وسرعان ما فقد صبره وانقياده عندما وجد الرجل يخرق سفينة ركباها لبعض شأنهما، فاعترض هذا العمل المستنكر!. وتكرر الإنكار عندما تكررت الأعمال التي لا يقرها موسى، وشرحت الآيات الموضوع كله: {أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا}. كان الملك المغتصب لا يمر بسفينة صالحة إلا أخذها، فلما وجد هذه معيبة تركها، فكان خرقها سبب بقائها لأصحابها. أما الغلام الذي قتله الخضر فكان طاغية كفورا، وقد نجى الله أبويه من شر، كما قال في سورة أخرى: {آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا}. والمهم أن خضر قال لموسى آخر الأمر: {وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا}. هذه مهمات خاصة كلف الله بها واحدا من عباده الصالحين، ولو أن أحدا قام بهذه الأعمال من تلقاء نفسه لكان خارقا لشرائع الله، مفسدا في الأرض، فالغيوب لصاحبها جل شأنه، وله أن يكلف من شاء بما شاء. أما الذين يتبعون هواهم ويعتدون على غيرهم فلا ينجون من عقاب!. إن الخضر انطلق لتنفيذ مهمة خاصة كلفه الله بها، ومنه استمد مشروعية ما فعل..! ولا يتاح ذلك لغيره أبدا.. وقد يقال: هل خضر أفضل عند الله من موسى؟. ونجيب: كلا، فموسى واحد من المرسلين الخمسة أولى العزم الذين أخذ الله عليهم المواثيق بهداية البشر، وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، ولا يفضل هؤلاء أحد من الناس.
والمزية التي ظهرت للخضر هنا لاتقدمه على موسى، فإن المزية لاتقتضى الأفضلية، ومكانة الرجل تجيء من مواهب كثيرة تلتقى في شخصه، لامن موهبة واحدة يكون فيها مبرزا، على حين يكون عاديا في بقية صفاته. قد يكون المريض في فراشه أحد بصرا من عواده، فهل يفضلهم بهذه الميزة؟. إذا ذكر التدين سبق إلى الأذهان الزهد في الدنيا والبعد عنها، والحق أن التدين المعزول عن الدنيا أو العاجز فيها لاخير فيه، ولاجدوى منه. وقد جاءت القصة الرابعة في سورة الكهف لرجل ملهم أوتى الملك والعلم، فكان تدينه نموذجا حسنا للصلاح والإصلاح، أو للتقوى والتمكين في الأرض، هذا الرجل هو ذو القزدين. ولايعنينا الاستيقان من أنه كان ملكا لليونان أو للفرس أو للصين أو لليمن، وإنما يعنينا أن الله مهد له الطريق لأسباب القوة فسلكه، وكان له ملك عظيم التقى فيه العلم والإيمان والحكمة والإنصاف: {ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا فأتبع سببا}. ما فتح الله له باب خير إلا وتجة ولجه في مرضاة ربه. وخرج الرجل يسيح في الأرض بما آتاه الله من قوى، حتى انتهى إلى شاطئ لا أرض بعده، ورأى قرص الشمس يسقط في اللجج- كما تتخيل العين- وهناك وجد قوما أخلاطا فيهم المحسن والمسيء فأوحى الله له: {إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى}. وهذه سياسة حسنة لحاكم عادل.. وفى سياحة أخرى نحو المشرق وجد قوما متخلفين لا يسترهم من الشمس شيء، ولعل ذا القرنين ترك بين هؤلاء من يرفع مستواهم ويصلح أحوالهم.. وفى سياحة أخرى بلغ بين السدين- سلاسل من الجبال- تعيش فيها شعوب يشبهون من سبقهم في التخلف والعجز، لكن جيرانهم يغيرون عليهم وينالون منهم: {قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا}؟. فأبدى لهم ذو القرنين أنه مستغن. عن مالهم، وأن ما آتاه الله خير مما لديهم، وطلب منهم أن يعاونوه في إقامة سد عظيم يحجز عنهم الأعداء {فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما}.
وظهرت عبقرية ذى القرنين الهندسية فقد بنى خطا من الاستحكامات العسكرية ذوب فيه الحديد والنحاس والصخور، أعلى بناءه، وقوى أسفله، وساوى بين حافتى الجبلين، وأنشأ بذلك حاجزا يصد الأعداء {فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا قال هذا رحمة من ربي}. إننى عندما أقرأ خبر هذا الرجل أشعر بالحزن، لأن الخبرة الفنية التي أبداها لا تعرف اليوم بين المسلمين، لقد انفرد الأجانب بها، وأمسوا الخبراء المتخصصين فيها.. إن المهارة في شئون الحياة صارت لديهم ملكة راسخة. والغريب أننا بدل أن نتعلم الإبداع في شئون الدنيا تعلمنا الابتداع في شئون الدين، فأتينا بأمور ما أنزل الله بها من سلطان. وكان من وراء ذلك فوضى عقلية وخلقية، أخرتنا في معاشنا ومعادنا...!! ويأجوج ومأجوح جيل من الهمج لا يضبطهم وحى ولا تحكمهم شريعة، وهم يعيشون في الصين، ويبدو من جرس الكلمة أنها صينية الأصل. وقد ذكر القرآن الكريم في هذه السورة أن مدنا كثيرة سوف تعذب آخر الزمان: {وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا}. كما جاء في سورة الإسراء: {وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا}. فهل ذلك على يد يأجوج ومأجوج؟ أو يصادف خروجهم؟ قال تعالى في سورة الأنبياء: {حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا}. ذلك. وقد جاء ذكر يأجوج ومأجوج في التوراة كما جاء في القرآن الكريم.. وتختم سورة الكهف بالمعانى التي ذكرت أولها، فالسورة كما أوضحنا لتقرير عقيدة التوحيد، ونفى أن يكون لله أولاد أو أنداد {كبرت كلمة تخرج من أفواههم} وهنا يقول: {أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا}.
وفى أول السورة يبين المولى سبحانه أن الناس خلقوا لإحسان العمل، وتلك وظائفهم في الحياة {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا}. وهنا يقول: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه}. وبعد تقرير جزاء المحسن والمسيء تجيء آية تتحدث عن كلمات الله وهو يحيى ويميت ويوجه الكائنات كلها وفق ما يريد، إنه يأمر فيتحرك العالم أجمع من إنسان وحيوان ونبات، وتأخذ الموجودات أوصافها وأشكالها وأعمارها، لا في لحظة واحدة، بل على امتداد الزمان {كل يوم هو في شأن}. هل يقدر أحد على إحصاء ذلك؟ مستحيل حتى لو كانت البحار مدادا والأشجار أقلاما!. {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا} وكلمات الله هنا تعنى بداهة ما توجد به الأشياء، أو تفنى، وما تتحرك به أو تسكن!. وختمت السورة بمعنى نبيل: مادام الرب واحدا، فليكن هو وحده المقصد. ماذا يجدى غيره؟ ولماذا نتجه إلى ما لا يضر ولا ينفع. إن جماهير من العميان اتخذت مع الله- أو من دونه- شركاء هم في الحقيقة أصفار وأوهام. والتوحيد الصحيح أن تفرد الله بالعبادة والدعاء {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا}. اهـ.